باب إدوارد هوبير لم يغلق تماماً
فاروق يوسف
بعد ميلانو جاء مباشرة دور روما لتحتفي بالرسام الاميركي الأكثر شهرة إدوراد هوبير. المعرض الشامل الذي يضم أكثر من 160 عملاً ويحتضنه متحف روما هو الاول من نوعه في ايطاليا على مستوى الحجم والنوع. متحف ويتني في نيويورك وهو الجهة التي تملك أكبر عدد من لوحات هوبير (2500 عمل) فتح أبواب مخازنه لمنظمي هذا المعرض الذي سيستمر حتى منتصف حزيران (يونيو) المقبل. يشتمل المعرض على كل المراحل الفنية التي مر بها هوبر غير أن لوحات بعينها حظيت باهتمام خاص لدى أولئك المنظمين لما تمثله من قيمة جمالية وفكرية في مسيرة هوبير الفنية الحافلة بالصمت. في مقدم تلك اللوحات تقف ثلاث هي «الأرقون» و «شمس في غرفة فارغة» و «بورتريه شخصي». تمثل كل واحدة من هذه اللوحات مفتتحاً لمنعطف جديد في حياة وفن الرسام الذي كان يقول: «اذا استطعت ان تقول العالم من خلال الكلمات فلا داعي لأن ترسمه». وهي الجملة التي تتناقض ظاهراً مع نتائج النظرة الأولى التي يلقيها المرء على لوحات هوبير. ففي كل لوحة من لوحاته هناك حكاية ما يمكن التعبير عنها بالكلمات. حكاية وقعت و أخرى ستقع. فحرص هوبير الدائم على أن يرسم باباً لم يغلق تماماً أو نافذة مفتوحة يدفع المتلقي إلى التفكير بما حدث قبل الصورة أو بما سيحدث بعدها. غير أن المرء سرعان ما يكتشف أن لا تناقض بين ما قاله هوبير وما فعله في رسومه. ذلك لأن امعان النظر في رسومه سيجعلنا ننتقل بخفة إلى عالم تتسيده الألغاز. عالم سري مصنوع من مادة الوحدة الانسانية. شيء أبعد مما يراه المرء يجعلنا نشعر بعدم الجاهزية. كما لو أننا نفقد القدرة على الاستمرار في النظر. أعمال هوبير تقترح علينا الذهاب إلى الأعماق. هناك دائما لغز مفقود. وإذا كان هوبير هو الرسام الواقعي الوحيد الذي صمد أمام تيارات الحداثة العاصفة فإن ذلك الاعتراف لم ينتج إلا عن ازاحة هوبير لمفهوم الواقعية عن معناه الذي ساد خلال القرن التاسع عشر. واقعية هوبير هي مزيج من الحلم بالواقع ومن الواقع منظوراً إليه بعيني شخص وحيد. وهي واقعية ملهمة. بمحض الصدفة قرأت قبل وقت قصير مجموعة قصصية بعنوان (غرفة على البحر، غرفة في المدينة) ترجمت حديثاً الى اللغة السويدية للكاتب النروجي فرودا غريتن. ما هو مثير في تلك المجموعة ان حكاياتها العشر مستلهمة من عشر لوحات من هوبير. حكايات عن أناس يقفون في مفترق الطرق من حياتهم. اللحظة الفاصلة التي تنتهي فيها حياة ساكنة لتبدأ معها حياة أخرى غير متوقعة. رجل وامرأة يلتقيان في مقهى. امرأة تلتقي في الطريق برجل أحبته ذات مرة. امرأة مصابة بمرض مميت وزوجها. حكايات باردة غير أنها تستمد قوتها من خيط إنساني متوتر يخترقها بحساسيته الهشة. لذلك فإن العودة إلى هوبير في زمن ما بعد الحداثة أصبحت نوعاً من التعويض عن غياب تلك الحساسية المهشمة على رغم أن شعور الإنسان المعاصر بالوحدة بكل ما تنطوي عليه من قسوة وشعور عميق بالاغتراب يكاد يكون قاسماً مشتركاً لغالبية الأعمال الفنية في زماننا. على مستوى تاريخي فإن فن هوبير لا يمثل نوعاً من صلة الوصل بين مرحلتين في الفن الأميركي. فالرجل الذي عاش بين عامي 1882 و1967 أدار ظهره لكل ما يجرى من حوله من تحولات فنية. لم يكن جزءاً من المشهد ولم يكن يهمه أن يكون موجوداً في ذلك المشهد. بل عمد إلى عزلة شبيهة بأحوال عزلة ساكني رسومه من الذين يبحثون عن مشاركة إنسانية لا تقع خارج نطاق الممكن، غير انه مع ذلك يظل ممكناً متخيلاً، مثل الواقع تماماً. في عقدي الثلاثينات والأربعينات من القرن العشرين انجز هوبير رسوماً تنتمي إلى ما أطلق عليه نقاد الفن مرحلته الكلاسيكية، حيث استطاع وبالأخص في لوحته «الأرقون» أن يلتقط شكلاً متوتراً للغربة النفسية ليجسدها من خلال بشر واقعيين. في تلك اللوحة رسم هوبير رجلين وامرأة وقد لجأوا إلى بار لقضاء ليلتهم بعد أن أعياهم الأرق. لكن تغيير المكان لا يُحدث أي تغيير نفسي في أعماقهم، فالجدار يبقى قائماً والشعور بالوحدة يبدو مثل قدر. وكما يبدو لي فإن هوبير اتخذ من ذلك القدر مقياساً للتعريف بما هو إنساني. فهو حين يرسم مقهى لا يهتم كثيراً بإظهار أي نوع من الاكتراث بالشراكة الاجتماعية على وجوه أبطاله العاكفين على عوالمهم الداخلية الملغزة. الخواء الذي يظلل أمكنته العامة هو ذاته منعكساً في المرايا الداخلية لكل شخص يرود تلك الأماكن. لا يتساءل النقاد كثيراً عن السبب الذي يجعل ادوراد هوبير مستعاداً بقوة في السنوات الأخيرة. ففي كل سنة هناك مكان في أوروبا يحتفي من جديد بأعماله. قبل خمس سنوات كان التيت غاليري قد أقام معرضاً شبيهاً بمعرضي ميلانو ـ روما وما بين الحدثين انشغلت مدن أوروبية كثيرة بفن هوبير. لا أعتقد ان رغبة حقيقية في العودة الى الواقعية تقف وراء تلك المساعي. ربما كان للمبالغة الأميركية بما يرافقها من دعم مالي كبير أثر كبير في دفع المتاحف إلى التعريف بفن هوبير الذي هو فن متحفي بامتياز. فعلى رغم أنه يقول حقائق كثيرة لا تخطئ طريقها إلى حياة الناس العاديين في عالمنا المعاصر غير ان لغة هوبير صارت قديمة منذ زمن بعيد. يمكنني هنا أن أزعم أن ما فعله فرودا غريتن حين استخرج حكاياته من أعماق أعمال هوبير انما هو محاولة لتجديد لغة الرسام أو على الأقل إكساب تلك القديمة طابعاً إيحائياً.
الخميس أبريل 29, 2010 10:51 pm
